الجنس الفموي وسرطان الفم

الجنس الفموي وسرطان الفم والبلعوم: تحذيرات علمية من تفشي وباء صامت

في العقود الأخيرة، شهد المجتمع الطبي تحولاً جذرياً في فهمه للأسباب المؤدية إلى سرطانات الفم والبلعوم، إذ لم تعد العوامل التقليدية مثل التدخين وتناول الكحول وحدها المسؤولة عن هذا النوع من السرطان، بل ظهرت أدلة علمية دامغة تشير إلى دور الجنس الفموي في انتقال فيروس الورم الحليمي البشري (HPV)، الذي يعد اليوم من أبرز الأسباب الرئيسية للإصابة بسرطان الفم والبلعوم، خاصة بين فئات عمرية شابة لم تكن في الماضي ضمن الفئات الأكثر عرضة.

هذا المقال الموسع يستعرض العلاقة الوثيقة بين الجنس الفموي والإصابة بسرطان الفم والبلعوم، مستندًا إلى دراسات علمية حديثة، محذرًا من تفشي وباء صامت قد يهدد الصحة العامة على نطاق واسع، مع توضيح آليات الانتقال والعوامل المساهمة وطرق الوقاية.

أولاً: ماهو سرطان الفم والبلعوم؟

سرطان الفم والبلعوم هو نوع من الأورام الخبيثة التي تظهر في الأنسجة الفموية (اللسان، اللثة، الخدود، سقف الفم) أو في البلعوم (الجزء الأوسط والخلفي من الحلق). ويصنف من ضمن سرطانات الرأس والعنق. من بين أنواعه الشائعة:

• سرطان البلعوم الفموي (Oropharyngeal cancer)، ويشمل اللوزتين وقاعدة اللسان.

• سرطان الفم (Oral cavity cancer)، ويشمل الشفاه وباطن الخدين وأرضية الفم.

ثانياً: الجنس الفموي وفيروس الورم الحليمي البشري (HPV)

يعد فيروس الورم الحليمي البشري (Human Papillomavirus) من الفيروسات المنقولة جنسيًا الأكثر شيوعًا في العالم. ورغم ارتباطه السابق بسرطان عنق الرحم، إلا أن الدراسات الحديثة تؤكد مسؤوليته عن نسبة متزايدة من حالات سرطان البلعوم الفموي.

• HPV-16 هو النمط الفيروسي الأكثر ارتباطًا بسرطان البلعوم الفموي، ويتواجد في حوالي 70% من حالات الإصابة بهذا النوع من السرطان.

• تنتقل العدوى عادة عبر الجنس الفموي، حيث يخترق الفيروس الغشاء المخاطي في الفم أو الحلق ويبدأ عملية التسبب بالتغيرات الخلوية المؤدية إلى الورم.

ثالثاً: بيانات وبائية مقلقة وتحذيرات من تفشي وباء صامت

تشير تقارير مركز مكافحة الأمراض الأمريكي CDC ومعهد السرطان الوطني الأمريكي إلى أن سرطان البلعوم الفموي المرتبط بـ HPV يشهد زيادة كبيرة تفوق السرطانات المرتبطة بالتدخين أو الكحول. ففي الولايات المتحدة وحدها، فاقت حالات سرطان الفم المرتبط بـ HPV عدد حالات سرطان عنق الرحم.

• في عام 2020، سجلت الولايات المتحدة ما يقارب 20,000 حالة جديدة من سرطان البلعوم الفموي المرتبط بـ HPV.

• أكثر من 70% من هذه الحالات سُجلت بين الرجال، وتتراوح أعمار الغالبية ما بين 40 إلى 60 عامًا.

رابعاً: آلية التسبب بالسرطان من خلال HPV

فيروس الورم الحليمي البشري لا يسبب السرطان بشكل مباشر عند الإصابة به، بل يتطلب الأمر سنوات من العدوى المزمنة التي تؤدي إلى تغييرات في الحمض النووي للخلايا المخاطية، وتحولها إلى خلايا سرطانية. وتتضمن العملية:

1. العدوى بالفيروس من خلال ممارسات الجنس الفموي غير المحمي.

2. بقاء الفيروس داخل الخلايا لمدة طويلة دون أن تتمكن المناعة من التخلص منه.

3. تطور طفرات جينية تؤدي إلى تعطيل آليات التنظيم الخلوي الطبيعي، وظهور خلايا شاذة تتكاثر بلا سيطرة.

4. تشكل الورم الخبيث وتوسعه إلى أنسجة مجاورة.

خامساً: عوامل الخطر المرتبطة بالجنس الفموي

أظهرت الدراسات أن بعض السلوكيات تزيد من احتمالية الإصابة بسرطان الفم والبلعوم نتيجة الجنس الفموي، وتشمل:

سادساً: أعراض سرطان الفم والبلعوم المرتبط بـ HPV

من أبرز ما يميز هذا النوع من السرطان أنه غالباً لا تظهر أعراضه إلا في مراحل متأخرة، مما يجعله خطيراً من حيث الكشف المتأخر. الأعراض قد تشمل:

• صعوبة في البلع.

• ألم مستمر في الحلق.

• ظهور كتلة أو تورم في الرقبة.

• تغيرات في الصوت أو بحة.

• تقرحات لا تلتئم داخل الفم.

• نزيف من الفم أو الحلق.

سابعاً: طرق التشخيص والكشف المبكر

يعد التشخيص المبكر مفتاحاً في زيادة فرص النجاة من سرطان الفم والبلعوم. تشمل وسائل التشخيص:

• الفحص السريري الفموي عند طبيب الأسنان أو الأنف والأذن.

• تنظير البلعوم والفم لرؤية التغيرات الداخلية.

• خزعة نسيجية لتأكيد وجود خلايا سرطانية.

• اختبارات للكشف عن DNA فيروس HPV داخل الخلايا السرطانية.

كما يجري العمل حاليًا على تطوير اختبارات كشف فيروس HPV من اللعاب كوسيلة غير باضعة للكشف المبكر.

ثامناً: الوقاية… مسؤولية شخصية ومجتمعية

الوقاية من هذا النوع من السرطان ممكنة إلى حد كبير من خلال عدة استراتيجيات طبية وسلوكية، تشمل:

1. اللقاح ضد فيروس HPV

   • اللقاحات مثل “Gardasil 9” فعالة ضد أكثر الأنماط المسببة للسرطان.

   • يُوصى به للفتيان والفتيات بعمر 11-12 عامًا، ويمكن إعطاؤه حتى سن 45.

2. ممارسات جنسية آمنة

   • استخدام الحواجز الوقائية مثل الواقي الفموي.

   • تقليل عدد الشركاء الجنسيين.

   • الامتناع عن الممارسات المحفوفة بالمخاطر.

3. التوقف عن التدخين والكحول

   • يساهم في تعزيز مقاومة الخلايا الفموية للأمراض.

4. فحوصات دورية للأسنان والفم

   • تساعد في الكشف المبكر عن التغيرات الشاذة.

تاسعاً: توصيات الهيئات الصحية الدولية

• منظمة الصحة العالمية (WHO) تدعو إلى إدراج لقاحات HPV ضمن برامج التحصين الوطنية.

• المعهد القومي للسرطان (NCI) يشدد على خطورة ربط HPV بسرطان الفم والبلعوم، وينصح بتوسيع حملات التوعية.

• الجمعية الأمريكية لعلم الأورام (ASCO) أدرجت الجنس الفموي كعامل خطر يجب أخذه في الاعتبار خلال التقييم السريري.

عاشراً: الواقع العربي والمخاوف المستقبلية

رغم قلة الدراسات الوبائية في العالم العربي، فإن التحولات السلوكية وزيادة انفتاح المجتمعات قد تؤدي إلى تكرار السيناريو الغربي في تفشي سرطانات مرتبطة بالجنس الفموي وHPV.

• نقص التوعية والتحفظ المجتمعي يمنع الحديث الصريح حول هذه القضايا، مما يعيق الوقاية.

• غياب برامج تطعيم ضد HPV في معظم الدول العربية يفاقم الوضع.

• قلة الفحوصات الروتينية للفم والبلعوم تؤخر التشخيص وتضعف فرص النجاة.

الحادي عشر: الحقائق الرقمية والبيانية

الثاني عشر: مستقبل المواجهة والسيطرة

يمثل التزايد الحاد في حالات سرطان البلعوم الفموي المرتبط بـ HPV تحديًا جديدًا للمنظومات الصحية، ويستدعي تحركًا شاملاً:

• إدراج التثقيف الجنسي والصحي في المناهج التعليمية.

• إطلاق حملات توعية عامة تتحدث بوضوح عن مخاطر الجنس الفموي.

• تشجيع الفحوصات الوقائية المنتظمة من قبل أطباء الأسنان والأنف والأذن والحنجرة.

• دعم إدخال لقاحات HPV ضمن التطعيمات الإلزامية في مراحل الطفولة والمراهقة.

المراجع:

1. Gillison ML, et al. “Evidence for a causal association between human papillomavirus and a subset of head and neck cancers.” Journal of the National Cancer Institute, 2000.

2. Centers for Disease Control and Prevention (CDC). “HPV and Oropharyngeal Cancer.” https://www.cdc.gov/cancer/hpv/basic_info/hpv_oropharyngeal.htm